23 - 07 - 2025

من غزة إلى طهران .. وسائل الإعلام ميدان قتال | التحليل السياسي بين التفكير الرغبي والحرب النفسية

من غزة إلى طهران .. وسائل الإعلام ميدان قتال | التحليل السياسي بين التفكير الرغبي والحرب النفسية

- التحليلات السياسية أخطر من الدعاية المباشرة لأنها تسعى إلى "احتلال العقل واحتلال اللغة"
- الجائزة الأساسية التي حققتها إسرائيل من هذه الحرب هو تعطيل المفاوضات النووية الأمريكية الإيرانية

طرحت الحرب القصيرة بين إسرائيل وإيران، مثلما طرحت الحرب على غزة التي فجرها هجوم السابع من أكتوبر 2023 من قبل، مشكلة كبيرة فيما يتعلق بتحليل أحداث وثيقة الصلة بصراعات مشحونة بالعواطف وبتصورات أيديولوجية مسبقة، وينظر إليها، عادة، من خلال سرديات كبرى ترسم لها مسارات تاريخية حتمية أو شبه حتمية. ففي مثل هذه الصراعات، كثيراً ما يختلط التحليل والرأي بما يسمى بالتفكير الرغبي wishful thinking، الذي يُخضع التحليل لأهواء المحلل أو بما يرضي توقعات الجمهور المستهدف وما يتمناه بغض النظر عما تنبئ به البيانات المتاحة والوقائع. لكن الأخطر من التفكير الرغبي، أن كثيرا من التحليلات والآراء التي تنتشر عبر وسائل الإعلام، التي غدت ميدانًا آخر للقتال، أصبحت واحدة من أدوات الحرب النفسية، وجزءً أساسيًا من المعركة على الوعي والإدراك، وباتت من بين العناصر الأكثر حسماً وخطورة في الحروب الحديثة، خصوصًا إذا ما علمنا أن الهدف الرئيسي لأي حرب هو كسر إرادة الخصم وإقناعه بهزيمته، معنوياً ونفسياً، حتى قبل وقوع الهزيمة الفعلية أو المادية.

في هذا السياق، أصبح التحليل السياسي أداة أكثر تأثيرًا في الأطراف المتصارعة من حملات الدعاية الموجهة التي تشرف عليها أجهزة المخابرات والأجهزة المسؤولة عن شن الحروب النفسية، فالتحليلات السياسية تلعب دوراً أخطر من الدعاية المباشرة، لأنها تسعى، وبشكل مباشر إلى "احتلال العقل واحتلال اللغة"، حسبما تذهب القاصة والمترجمة العراقية بثينة الناصري، في كتابها "احتلال العقل: الإعلام والحرب النفسية"، الصادر في عام 2017، من خلال برامج وعمليات معقدة لغسل الأدمغة.ويوظف التحليل السياسي والاستراتيجي، في الحرب النفسية، مثله مثل النتائج التي خلصت إليها البحوث في مجالات مختلفة المعنية بدراسة السلوك البشري والتأثير فيها والتي تستفيد من البحوث في علم الأحياء (البيولوجيا) أو علم الإنسان (الأنثروبولوجيا) أو علم النفس، وكان تأثير ثورة المعلومات والاتصالات ووسائل الإعلام الحديثة عظيمًا في الحرب النفسية وأدواتها. ومع هذا، تظل الكلمة هي الميدان الرئيسي للحرب النفسية، ولا يزال التأثير في إدراك الخصم على مستوى نخبة صنع القرار، أو على مستوى الجمهور العام بغرض توجيه ردود فعله وتوجهاته هو هدف هذه الحرب وغايتها. فهذه الحرب "معركة الكلمة والمعتقد، بحسب وصف صلاح نصر، مدير جهاز المخابرات المصرية الراحل، في كتابه عن "الحرب النفسية" الذي صدر في جزأين في سبتمبر عام 1966، والذي يوضح كيف توظف نتائج البحوث البيولوجيا وعلم النفس في خدمة الأمن القومي للدول. 

الحرب في عالم "ما بعد الحقيقة"

تميزت الحرب الإسرائيلية على غزة، ومع حزب الله في لبنان، ومع الحوثيين في اليمن، وأخيراً حربها مع إيران، بحضور لافت للمحللين السياسيين والخبراء الاستراتيجيين والعسكريين الذين يتحدثون للجمهور من خلال المنصات الإعلامية، وعادة ما يتم اختيار المتحدثين على نحو يظهر حيادية المؤسسة الإعلامية وحرصها على تحقيق التوازن في تغطية الأحداث. التوسع في الاعتماد على المحللين والخبراء تطور جديد ناجم عن ثورة المعلومات والاتصالات وفي دور وسائل الإعلام التي باتت تتعامل مع متلقين لديهم بدائل عديدة للمعرفة وتكوين الرأي في ظل التدفق الهائل للمعلومات والبيانات وبسرعة كبيرة، عبر الوسائط المختلفة للإعلام الجديد مع التوسع الاعتماد على الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي وظهور لاعبين جدد قادرين على التعامل مع هذه الوسائط الجديدة وتوظيفها من خلال ضخ اللقطات المصورة والمعلومات، وترتب على ذلك استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والانترنت لضخ كم كبير من الأخبار والتقارير المزيفة، لا سيما مع تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي، وقد ساهم ذلك في بروز ما بات يعرف في الدراسات الإعلامية والاجتماعية بعالم "ما بعد الحقيقة"، والذي يشير إلى مناخ ثقافي وسياسي يتراجع فيه تأثير الحقائق الموضوعية في تشكيل الرأي العام، فيما يتزايد تأثير العواطف والمعتقدات الشخصية، على نحو يصبح معه تأثير الحقائق والوقائع ثانويًا مقارنةً بتأثير العواطف والآراء الشخصية، خاصةً في الخطاب السياسي.

من المفترض أن يساهم التوسع في دور التحليل السياسي، الذي كان يقتصر على تقديم المشورة لصناع القرار، لطرح تقديرات للموقف للجمهور الأوسع الذي يؤثر على المسؤولين الذين يتخذون القرارات من خلال مراقبة قراراته وتقييم أدائهم. ومن المفترض أن يساعد هؤلاء المحللون والخبراء، الجمهور على رؤية الحقائق من خلال التنقيب في السيل الهائل من البيانات والمعلومات، لتكوين تصور أقرب إلى الواقع، لكن معظم هؤلاء المحللين والخبراء ساهموا في إفساد المهمة الأساسية للإعلام بتحويل المنصات الإعلامية إلى منصات للتضليل وتزييف الوعي وتغييب الجمهور عن حقائق الحرب وتطوراتها ومساراتها، إما بسبب تغليب أهوائهم على الحقائق أو تكييف استنتاجاتهم لتتوافق مع رغباتهم ومع توقعات الجمهور وتفضيلاته. والنتيجة أن الجمهور يصحو فجأة على واقع مغاير تمامًا لما كان يقوله المحللون عبر وسائل الإعلام. هناك إشكاليات كبيرة تطرحها ثورة الاتصالات والمعلومات، ومصادر البيانات المفتوحة من خلال الانترنت، والتي أتاحت للجمهور العام سيلًا من البيانات والمعلومات، لكنها لم تساعده في الوقت نفسه على تقييم ما تقوله البيانات الرسمية لهذا الطرف أو ذاك. وبدلًا من أن يُعين الخبراء والمحللون الجمهور على الوقوف على حقيقة ما يجري، والتزامهم الحياد والموضوعية واستنادهم إلى معلومات دقيقة وبيانات موثقة، فإنهم يسيئون استغلال ما يتمتعون به من مصداقية. 

تجدر الإشارة هنا إلى الفارق الكبير بين التحليلات التي يعلنها المحللون من خلال وسائل الإعلام، والتحليلات التي تجريها مراكز التفكير والدراسات، وكذلك الفارق بين ما تنشره هذه المراكز للجمهور وبين ما لا تنشره. وعليه، يجب النظر إلى التحليلات المنشورة، بحذر شديد، لأنها قد تكون جزءًا من حملة تستهدف التأثير على الرأي العام وتوجيهه. وهناك فارق كبير بين التحليل السياسي الأمثل، وبين ما يحدث في الواقع وفي الممارسة العملية. 

في كتابه "منهجية التحليل السياسي وأهم أدواته"، يقدم الدكتور خيري فرجاني، أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية، تصورًا مثاليًا للتحليل السياسي ويراه "وسيلة" لإيصال فكرة أو وجهة نظر قريبة للواقع، من خلال عرض جميع جوانب الحدث واستنتاج أسبابه، ودوافعه، وأهدافه، وتوقع ما سوف تؤول إليه الأحداث في المستقبل القريب والبعيد، فضلا عن معرفة تأثيراته على الواقع الراهن". والتحليل السياسي، في رأيه، شكل من أشكال العمل السياسي، إذ تعتمد عليه الحكومات الرشيدة والناضجة في اتخاذ قراراتها، خصوصاً إذا ابتعد هذا عن إصدار أحكام مطلقة والمعالجة العاطفية، التي لا تستند إلى أدلة واضحة ومنطقية. مع أخذ الآراء والتقديرات المخالفة في الاعتبار. فوظيفة المحلل السياسي لا تنصرف، في الأصل، إلى تثبيت قناعات أو زعزعة قناعات أخرى بقدر ما هو محاولة لفهم الحدث على نحو يساعد على بناء تصور وتتبع مسار تطوره واحتمالات هذا التطور في ضوء المعطيات المتاحة والمقارنة. وتختلف جودة التحليلات السياسية باختلاف مؤهلات القائم بالتحليل وقدرته على الإلمام بالجوانب والأبعاد المختلفة للحدث الذي يدرسه، وبذل الجهد في تحدي قناعاته الشخصية، قبل تحدي قناعات الآخرين، فمهمة المحلل السياسي، أولاً وقبل أي شيء، هي السعي الدؤوب وراء الحقيقة، وليس مهمته إثبات صحة قناعاته الشخصية أو قناعات الآخرين. 

غير أن هذا النهج قد لا يعجب المناصرين المتحمسين لأحد أطراف الصراع، خصوصاً الذين تمنعهم تصوراتهم الأيديولوجية المسبقة عن رؤية الواقع وحقائقه، وكثيراً ما يلجأ هؤلاء إلى توجيه الاتهامات للمحللين الذين يصلون إلى استنتاجات قد لا تتفق مع أهوائهم. وتتراوح هذه الاتهامات بين بث روح انهزامية لدى في أوساط الجمهور، بافتراض حسن نية المحلل، وشن حرب نفسية لصالح العدو، واتهامهم بـ"خيانة" الوطن. من المؤسف، أن مثل هذه الاتهامات، قد ترهب كثيراً من المحللين عن إعلان آرائهم الحقيقية والنتائج التي توصلوا إليها، خصوصا إذا كان من المتوقع أن تتصادم هذه النتائج مع التوجهات السياسية العامة أو قناعات الجمهور، واللجوء إلى أساليب الترهيب وممارسة "الإرهاب الفكري". ولا يملك هؤلاء شجاعة العدول عن آرائهم إذا تبين لهم خطؤها، ويسعون إلى إضفاء تفسيرات عن التطورات الجارية في مسار الصراع المفتوح على نحو يثبت قناعاتهم، رغم أن الأحداث تمضي في وجهة أخرى مغايرة أو تتعارض بشكل صارخ مع تصوراتهم، وغالباً ما يصر هؤلاء على أن التاريخ سيمضي في النهاية وفق تصوراتهم وأمانيهم، من منطلق إيمانهم بأنهم على حق وبأن الحق لا بد وأن ينتصر في النهاية، لكن غالبًا ما تكون هذه النهاية في لحظة ما بعيدة في المستقبل، إذا تغاضينا عن مسألة ما إذا كان الطرف الذي يدعمونه يتخذ الموقف الصحيح استناداً إلى الواقع ومعطياته. والأخطر أن هؤلاء لا يلتفتون، غالباً، إلى التطورات التي طرأت على مفهوم الحرب ووظيفتها وأنماطها ولا التحولات في موازين القوى والمواقف على المستويين الإقليمي والدولي، وكانت الحرب الأولى المباشرة بين إسرائيل وإيران كاشفة لخطورة مثل هذا النوع من الاتهامات للتحليلات التي لا توافق هوى هؤلاء أو توقعاتهم. فعدالة القضية لا تضمن بالضرورة سلامة استراتيجية الدفاع أو المقاومة وهزيمة المعتدي، خصوصًا إذا تم تجاهل حركة الواقع ومعطياته.

استشراف المستقبل أم صنعهقق

هناك فارق آخر مُهم بين دور المحلل السياسي ووظيفته وبين دور السياسي وصانع القرار. وكثيراً ما يؤدي الخلط بين دور كل منهما إلى مشكلات، خصوصًا إذا سعى المحلل إلى التأثير المباشر على صانع القرار وتوجيهه لتفضيل بديل أو حزمة من البدائل، ففي هذا تجاوز لحدود دوره الذي ينحصر في التوصية بالبدائل فقط. وفهم حدود دور كل من المحلل ورجل السياسة يساعد على بناء علاقة إيجابية تجعل التعاون فيما بينهما مثمرًا. إن الشاغل الأساسي للمحلل السياسي هو تفسير ما يحدث، ويكون التفسير دقيقا كلما كان المحلل قادرًا على وصف ما يحدث وسعيه الدؤوب للإجابة عن سؤالي لماذا؟ وكيف؟، أما السياسي فمنشغل بالأساس بتغيير الواقع وليس بتفسيره، لكن نجاح خطته للتغيير يعتمد إلى حد كبير على دقة التحليل والاستناد إلى معلومات دقيقة، والابتعاد عن المعلومات الخاطئة والمُضللة أو المبالغ فيها. والسياسي الذي يسعى لتوجيه المحلل أو الباحث لتجاهل بيانات أو معلومات أو إعادة صياغة البدائل لتبرير القرار الذي سيتخذه إنما يسعى للتنصل من مسؤوليته عن القرار الذي سيتخذه، وهو بذلك يتخلى عن دوره أو وظيفته الأساسية، ويدفع المحلل إلى التخلي عن مهمته الأساسية المتمثلة في السعي إلى الوصول إلى تصور أقرب إلى الواقع من خلال تفكيك الحدث إلى عناصره الأولية وتحليلها لفهم الأسباب، وربطه بغيره من أحداث لاستخلاص النتائج، ومعرفة كيفية تطور الحدث. ويتعارض هذا مع فكرة حيادية وموضوعية المحلل السياسي التي تقتضي منه التحرر من الأحكام المسبقة، بما في ذلك الوقوع تحت تأثير أحداث مشابهة في السابق دون مراعاة اختلاف الظروف والمعطيات، وتدخل عوامل قد يتغير وزنها النسبي نتيجة لمتغيرات ومستجدات.

فالتحليل السياسي مهمته استشراف المستقبل من خلال تقييم فرص تحقق أحد الاحتمالات المتوقعة، ولا يجب أن يسمح المحلل لتفضيلاته أو تمنياته أو معتقداته وعواطفه ورأيه الخاص بالتأثير على عملية التقييم هذه، وأن يلتزم في ذلك بأقصى درجة من الحيادية والموضوعية، رغم صعوبة ذلك في مجال العلوم الاجتماعية والدراسات الإنسانية، حيث يتأثر الباحث بثقافته وبيئته ورؤيته الشخصية وتجربته الخاصة، وأيضاً بالتوجهات السائدة والمزاج العام، ذلك لأن تحري الحياد والموضوعية قد يفيد في تقديم بدائل يمكن للسياسي أن يختار الأنسب منها. ومهمة المحلل أسهل إذا كانت محصورة في نطاق دائرة ضيقة تقتصر على رجال السياسية وصُنَّاع القرار لكنها أصعب في حالة نشر هذا التحليل على جمهور أوسع. والسياسي غير ملزم بالضرورة باتباع التوصيات المحللين والباحثين، وإنما قد يستفيد من هذه الدراسات من أجل إعادة ترتيب الموقف السياسي بنائيا من أجل تحقيق أهدافه وكسب دعم الآخرين أو دفعهم لذلك. السياسة بهذا المعنى حرفة أو فن، أكثر من كونها منهجا للتحليل. ويعتمد رجل السياسة، بشكل أساسي على مهارته السياسية وبصيرته وحسه القيادي، وقد يستفيد في ممارسته من الدراسات أو لا يستفيد منها، هذا يتوقف على تقديره للموقف. وهناك أمثلة كثيرة لقرارات سياسية جاءت على الرغم من تقديرات وتوقعات المحللين، ونتوقف هنا عند قرار الرئيس الأمريكي جورج بوش بغزو العراق في عام 2003، وقرار الرئيس دونالد ترامب بالتدخل في حرب إسرائيل وإيران بتوجيه ضربات عسكرية لإيران، والذي اتخذه أيضًا على الرغم من السيناريوهات الكارثية التي حذر منها المحللون.


حرب العراق 2003 وحرب إيران 2025 

بعد حرب الكويت عام 1991، ركزت معظم التحليلات الصادرة عن مراكز التفكير الأمريكية على التهديدات والتحديات الإقليمية التي من المحتمل أن تواجهها الولايات المتحدة إذا أقدمت على تغيير نظام الرئيس العراقي صدام حسين بالقوة، وركزت التحليلات بشكل خاص على التوازن الطائفي في العراق نتيجة لصعود الشيعة سياسيًا بدعم إيراني، استنادا إلى تحليل الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت ثماني سنوات، والدعم الذي تقدمه إيران لأحزاب سياسية شيعية، وركزت أيضاً على تأثير مثل هذه الخطوة على الاستقرار السياسي داخل العراق بسبب تركيبته الطائفية. وأثرت هذه الأوضاع على الاستراتيجية الأمريكية لمواجهة التحدي الذي يمثله صدام حسين للسياسات الأمريكية في المنطقة، وجرى تناول هذه الاستراتيجية والخيارات المتاحة أمام صانع القرار الأمريكي في تقرير صدر عام 2000 عن مؤسسة راند للأبحاث، وغيرها من تقارير صدرت من مراكز أبحاث أخرى. ولم تؤثر هذه التقديرات على قرار الرئيس الأمريكي جورج بوش لغزو العراق عسكريا في عام 1993، دون تفويض من الأمم المتحدة، بزعم تفكيك برامج أسلحة الدمار الشامل العراقية. وقدم الاستعداد لهذا الغزو نموذجاً لكيفية التأثير على مراكز التفكير وتوجيهها للتركيز على خطر أسلحة الدمار الشامل وإعداد تقارير ملفقة جرى فيها تضخيم الخطر الذي تشكله هذه البرامج على توازن القوى في منطقة الشرق الأوسط.

فيما تشير تقديرات أخرى أن قرار الحرب اتخذ في سياق طموحات إدارة الرئيس بوش والمحافظين الجدد لإعادة صياغة موازين القوى الإقليمية والعالمية في أعقاب هجمات 11 سبتمبر عام 2001، والتي وظفتها الإدارة الأمريكية بما يخدم هذه الخطة تحت شعار الحرب على "الإرهاب" التي بدأت بغزو أفغانستان أواخر عام 2001، ثم غزو العراق في 2003، والإطاحة بالنظام في البلدين. وكانت التحليلات السابقة بخصوص النتائج المتوقعة للإطاحة بحكم صدام حسين دقيقة على حد أن التطورات اللاحقة تطابقت مع تلك التوقعات، وفي مقدمتها تعاظم نفوذ الأحزاب الشيعية وتعاظم النفوذ الإيراني في العراق وفي سوريا ولبنان، وكذلك فيما يخص عدم الاستقرار الداخلي في العراق، الذي كان على وشك التفتت إلى ثلاثة دويلات على أسس طائفية وصعود الجماعات الإسلامية المسلحة، مستلهمة أيديولوجية تنظيم القاعدة، ثم صعود تنظيم الدولة الإسلامية وسيطرته على مناطق في شمال العراق وشمال سوريا، وتهديده لمصالح الولايات المتحدة وحلفائها. وكان لهذه التطورات تأثيرها على سياسات الولايات المتحدة تجاه العراق وسوريا وعلى شكل التعاون العسكري والتواجد العسكري ميدانياً وسياساتها لمحاربة التطرف والإرهاب.

لكن ظل التهديد الذي تشكله إيران والشكوك في أنها تسعى لإنتاج أسلحة نووية بعد الكشف عن أنشطة سرية تنفذها بعيدا عن رقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية هاجساً رئيسيا للولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، لاسيما إسرائيل ودول الخليج العربية المجاورة لإيران، والتي رأت في الاتفاق النووي الذي وقعته إيران مع القوى العالمية الست، الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن وألمانيا، في عام 2015، مكافأة لها وأن إيران قد تتحول إلى مصدر تهديد أكبر على مصالح تلك الدول بعد رفع العقوبات الدولية المفروضة عليها وفي ضوء برامجها العسكرية، خصوصاً برنامجها الصاروخي الذي لم يشمله الاتفاق النووي، وكذلك سياستها التي تقوض استقرار الدول المجاورة من خلال الإشراف على تشكيل جماعات مسلحة موالية لها، على غرار جماعة حزب الله في لبنان، بزعم مقاومة إسرائيل وسياساتها العدوانية تجاه الفلسطينيين ولبنان وسوريا. ولعب تغير السياسات الأمريكية بعد فوز الرئيس الجمهوري دونالد ترامب في انتخابات عام 2016، في توجيه السياسات الأمريكية في المنطقة وفقاً لأولويات التهديدات الناشئة نتيجة للانتفاضات التي شهدها العام العربي في عام 2011، واندلاع الحرب الأهلية في سوريا وفي اليمن وما ترتب على ذلك من تقديرات تحذر من نشوب حرب إقليمية واسعة قد تهدد استقرار المنطقة وقد تغرى قوى دولية وإقليمية أخرى بالتدخل.

ويمكن القول أن العامين الماضيين، ومنذ اندلاع الحرب في غزة، شهدت ما يمكن وصفه بسباق بين السياسيين في الولايات المتحدة والدول الرئيسية في المنطقة لاحتواء توقعات المحللين والخبراء السياسيين ومنع التصعيد إلى حرب إقليمية واسعة نتيجة للحرب في غزة وسعي رئيس الوزراء الإسرائيلي وحكومته اليمينية المتطرفة لفرض أجندتهم السياسية الخاصة بتصفية القضية الفلسطينية وتحويل إسرائيل إلى قوة إقليمية رئيسية للمنطقة استناداً إلى قوتها العسكرية والتكنولوجيا، والتي دفعتها لشن حرب على إيران لقطع الطريق على أي احتمال لنجاح المفاوضات الأمريكية الإيرانية التي تجرى بوساطة عُمانية والتوصل إلى استئناف الاتفاق النووي بين إيران والقوى الغربية لا يشمل تفكيك البرنامج النووي الإيراني ولا سياسات إيران الإقليمية. وسعت إسرائيل إلى استثمار التفوق الذي حققته على الجبهة اللبنانية وإخراج حزب الله من المواجهة بعد اغتيال زعيمه حسن نصر الله وتحييد الجبهة السورية بعد الإطاحة بحكم الرئيس بشار الأسد الحليف المقرب لإيران وبعد استهدافها للكوادر العلمية والعسكرية والسياسية الإيرانية، وقررت المبادرة بشن حرب على إيران في مجازفة استراتيجية محسوبة والاطمئنان إلى الدعم الأمريكي وأن الولايات المتحدة ستتدخل في الوقت المناسب لإنقاذها ووقف الحرب، دون تحقيق أي من الهدفين الرئيسيين، وهما تدمير البرنامج النووي الإيراني، أو تغيير النظام في إيران. 

الجائزة الأساسية التي حققتها إسرائيل من هذه الحرب هو تعطيل المفاوضات النووية الأمريكية الإيرانية، وهو هدف قد يكون كافيا لنتنياهو وحكومته للتركيز على سياساتها الرامية إلى تطبيع العلاقات مع الدول العربية وتصفية القضية الفلسطينية. غير أن نجاح هذه الاستراتيجية مرهون باعتبارات كثيرة معظمها يتعلق بالتطورات السياسية على الساحة الإسرائيلية، وبقرارات القيادة السعودية ومواقف دول عربية أخرى، بينما لا يزال وضع البرنامج النووي الإيراني وقدراتها العسكرية التي أظهرتها مصدر قلق لإسرائيل. لكن أحد النتائج التي كشفت عنها المواجهات العسكرية التي استمرت 12 يوما تتمثل في صعوبة بناء تحالف عسكري إقليمي مناوئ لإيران من ناحية، ومحدودية النتائج التي يمكن تحقيقها بالقوة المسلحة، وأيضا حدود تأثير الحملات الدعائية والحرب النفسية.
--------------------------
بقلم: أشرف راضي

مقالات اخرى للكاتب

أجساد تكتب الحقيقة: غزة على أعتاب الموت الجماعي جوعا !!